fbpx
تاريخ

نهضة ألمانيا : كيف تحولت من مفتعلة للحروب إلى راعية للديمقراطية ؟

لعلّك سمعت يومًا في محاضرة ما، عن ألمانيا ومعجزتها الاقتصادية الباهرة من محاضر في التنمية البشرية، ولعلّك سمعت أيضا أن نهضة ألمانيا كانت  لأن الألمان ليسوا «مثلنا» فهم أكثر حُبا للعمل، وأكثر انضباطًا في الوقت، وتنتهي المحاضرة مع إجماع شبه كامل على أننا لو أصبحت «أخلاقنا» كـ «أخلاق الألمان» لوصلنا لما وصلوا، ولكن هل هذا صحيح؟

يبدو أنّ الإجابة ستكون لا. المدوّن الألماني دروتشمان يرى أن «انضباط الألمان» قد يكون له دور في نهضة ألمانيا ، ولكنه دور هامشي كما أكد لـ«ساسة بوست» ودروتشمان ليس وحده، فحكايات نهضة الألمان أسهل من أن يستوعبها تقرير، ولهذا فقد قررنا في التقرير التالي أن نُسلط الضوء على أغرب الحقائق المتعلقة بما يُسمى «المعجزة الاقتصادية الألمانية».

1.خطة مورجينتاو: نهضة ألمانيا الزراعية !

لم تكن خطة تحويل ألمانيا لبلد زراعي هي الخطة الوحيدة، أثناء الحرب العالمية الثانية ظهرت أولى وأخطر الخطط للحل النهائي مع الألمان، منها ما أكدته صحيفة ديرشبيغل -أكبر الصحف الألمانية- كخطط الثأر من الألمان التي نصت على تهجير مليون ألماني عبيدا إلى أفريقيا، لم تكن هذه الخطة الوحيدة الغربية حيث إن “خطة كاوفمان” التي عرضها ثيودو كاوفمان -رجل أعمال يهودي له وزنه في أمريكا-  في كتابه «ألمانيا يجب أن تُسحق Germany Must Perish!»والذي نشره عام 1941 وعرض فيه خطته لقطع نسل الألمان من خلال عمليات تعقيم (جعلهم عُقما) حيث اقترح تجنيد 20 ألف طبيب لتعقيم 45 مليون ألماني باعتبار أن الطبيب يقوم كل يوم بـ25 عملية، وهكذا سيتم الانتهاء من الخطة خلال شهر واحد فقط، وبالتالي سينتهي الألمان من الوجود.

عام 1944 مع إشراف الحرب على الانتهاء، كان هنري مورجينتاو يشغل منصب وزير المالية الأمريكي، وكان مثله مثل كثيرين من الساسة يُفكرون: كيف يُمكن أن نمنع ألمانيا من القيام بأي حرب قادمة؟ بالنسبة لمورجينتاو كانت الإجابة واضحة: نُحول ألمانيا إلى بلد زراعي، يعتمد بالدرجة الأساسية على الزراعة بوصفها مصدر دخل مع استئصال كُل ما له علاقة بالصناعة فيه، وبحسب الخطة فإن هذا سيجعل ألمانيا بلدا غير مؤذٍ؛ لأنه لن يكون قادرا على صناعة أي شيء وأي سلاح، وبالتالي فإن الاقتصاد سيكون ضعيفا، ولن تجرؤ ألمانيا على خوض أية حرب مستقبلية.

هذه الخطة جاءت عام 1945 في كتاب بعنوان «ألمانيا هي مشكلتنا Germany Is Our Problem» وبعد نهاية الحرب بهزيمة ألمانيا، بدأت تظهر مشاكل الفقر والبطالة في ألمانيا عام 1946 لدرجة أن الرئيس الأمريكي هربرت هووفر قرر زيارة ألمانيا لتقصي الحقائق؛ ليؤكد بعدها أن هذه الفكرة هي مُجرد «وهم» لا يُمكن تحقيقه إلا بإبادة 25 مليون إنسان أو إخراجهم من بلادهم، وكذلك كان كثيرون من الساسة الأمريكان يعتقدون بأنه لا يُعقل تكرار الخطأ الذي حصل بعد الحرب العالمية الأولى، حيث فرضت على ألمانيا شروط مُهينة جعلتهم ينتقمون، وبالتالي فإن خطة مورجينتاو تجعل ألمانيا أشبه بقنبلة موقوتة يُمكن أن تنفجر في أي وقت، ولهذا رُفضت.

2. طيبة قلب المارشال؟

من حُسن حظ الألمان، أن أمريكا خافت من ثأر ألماني قادم، ولذلك غيّرت كُل سياستها لتبدأ المساعدات الأمريكية تتدفق على غرب أوروبا، التي وصلت إلى 13 مليار دولار، وذلك بموجب برنامج التعافي الأوروبي الذي اشتهر باسم خطة المارشال.

جمهوريّة ألمانيا الاتحادية الفتية (دولة غرب ألمانيا) وحدها تلقّت 1.5 مليار دولار، بينما شرق ألمانيا لم يحصل على أي شيء، فقد رفض ستالين أي مساعدة أمريكية، وفوق ذلك قرر معاقبة الألمان؛ لأن روسيا تكبدت بسببهم خسائر هائلة في الحرب؛ فتم نقل ونهب المصانع الألمانية من الشرق، كُل هذا و«الكرم الأمريكي» يغدق على الغرب، والسؤال الذي يطرح نفسه: لم كُل هذا الكرم؟

يؤكد الباحثون، إن الكرم الأمريكي لم يكن لزرقة عيون الألمان، ولا بسبب طيبة قلوب الأمريكان؛ فقد كان لأمريكا أهدافها في تحويل الألمان من عدو إلى صديق من خلال التنمية الاقتصادية، فكيف ذلك؟ معلومٌ أن الفقر والبطالة هي الأرضية الأكثر خصوبة لانتشار الشيوعية، وهو ما كانت تُحاربه أمريكا الرأسمالية، ولذلك كان المساعدات أفضل طريق للحد من توسع الشيوعية، وهو بما يُعرف في العلوم السياسية بـ Economic Containment وفعلا فقد نجحت أمريكا بخلق حاجز وقائي من البلدان الثرية من أوروبا الغربية على الحدود مع الاتحاد السوفيتي الذي كان يُسيطر على شرق ألمانيا.

بحسب الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي فقد ذكر في إحدى كتاباته كيف أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كان ترى بأن الخطر الأكبر على أمريكا هو انهيار الاقتصاد في غرب أوروبا، ووصول عناصر شيوعية إلى السلطة ولتجنب الخطر لا بُد من تبني خطة المارشال، ويؤكد جارودي أنه تمت إقالة وزراء شيوعيين من الحكومة الفرنسية والبلجيكية في عام 1947 بعد هذه التوصيات.

ومع أن الهدف الأكبر من المساعدات كان الحد من انتشار الشيوعية، إلا أن خطة المارشال عادت على الولايات المتحدة فوائدة جمّة، حيث استطاعت أن تخلق سوقا استهلاكية للسلع الأمريكية، وبالتالي فقد بدأت الأموال تتدفق إلى أمريكا من جديد، وهكذا بدأ الاقتصاد الأوروبي يتعلق بشكل أساسي بالسوق الأمريكي، مما أتاح لأمريكا الاستمرار في النمو والتطور، كل هذا وهي تظهر مظهر الصديق للشعوب.

3. إعادة برمجة «الألمان»: Umerziehungsprogramm

أمريكا لم تعتمد على الاقتصاد فقط، فقد سخّرت كُل قدراتها العلمية والاستخباراتية لتحويل ألمانيا إلى صديق وحليف في وسط أوروبا، فمن ذا الذي كان سيُصدق أن الألمان سيُصبحون أصدقاءً لأمريكا بعد أن قامت بقصفهم قصفا شنيعا لدرجة أن مدينة كولن لم يبق منها إلا ثلثها وفي هامبورغ دُمّر 300 ألف منزل، أما مدينة دريزدن فإن بعض الدراسات تُقارنها أحيانا بهيروشيما. المهم أنه بعد كُل هذا فإن الكثير من الألمان يعتبرون ما فعلته أمريكا تحريرا لهم، ونادرا ما توجه أصابع الاتهام لأمريكا لقصفها المدنيين الألمان، فكيف نجحت أمريكا في تغيير نظرة الألمان نحوها؟

بعد الحرب كانت أمريكا تؤمن بأن «كُل ألماني كان نازيا» ولهذا كان لا بُد من إعادة برمجة العقلية الألمانية من جديد. إحدى أعجب الوسائل التي استُخدمت كانت إجبار الألمان على زيارة معسكرات الاعتقال النازية «غصبا عنهم» كما حصل في مدينة فايمر حيث تم إجبار كُل سكان المدينة رجالا ونساءً على التجوّل بين الجثث المتعفنة ومُعاينتها كي يعتبروا، ومع أن المشاهد كانت صعبة جدا على النفس إلا أن الأمريكان كانوا يعتقدون بأن هذه إحدى أقوى الوسائل لـ «تربية» الألمان.

في إعادة برمجة الألمان، لم تستخدم وسائل «فظّة» فقط، فقد كان الهدف أن يتعلّم الألمان أساليب تفكير جديدة و«ديموقراطية» على النمط الأمريكي، وهذه مهمة ليس سهلة، ولهذا بدأت أمريكا حملة إعلامية ضخمة، كانت أبرز مقوماتها (أفلام البروبغاندا) التي بدأت بأفلام تتحدث عن فظائع الألمان ومحاكمات قيادات النازية، ولكن الخبراء في ألمانيا بدؤوا يقترحون أفلاما مع محتويات إيجابية تعلّم الألمان «التسامح والأخوة» التي كانت تهدف لإتاحة الفرصة للألمان للانخراط من جديد فيما يُسمى «منظومة القيم الغربية الديمقراطية» أحد هذه الأفلام هو فيلم «كل البشر إخوة» الذي يظهر فيه أحد الألمان كما لو كان طفلا تعلّم بعد عمر طويل: إن الشعوب مختلفة، وأنهم يجب أن يعيشوا معا.

في مرحلة ما، سيطر الاتحاد السوفيتي على تشيكوسلوفاكيا وبالتالي خسرت أمريكا دولة صديقة أخرى في أوروبا، وبالتالي كان لا بُد من كسب صديق جديد بأي شكل ممكن، لتبدأ مرحلة جديدة من أفلام البروبغاندوا لكسب الصديق الجديد – ألمانيا.

يُحاول فيلم «الأسلاك الشائكة الخفيّة» أن يعالج الأفكار المسبقة عن الأمريكان، ويُحاول أن يثبت للألمان أن للتعرف على الآخر فوائد جمّة، كمشهد شُرب الألماني الكوكا كولا لأول مرّة في حياته، واكتشافه مدى لذتها، وهكذا ينتهي الفلم القصير بفرحة الألماني، وهو يودّع الأمريكي بكُل سرور.

يؤكد الفيلم الوثائقي Germany made in USA أن عمليّة إعادة برمجة العقلية الألمانية لم تكن مهمة سهلة، ولهذا فإن ما عُرف حينها بـ «الإستراتيجية النفسيّة من أجل ألمانيا PsychologischenStrategieplanfür Deutschland»كانت مدعومة من قِبل المخابرات الأمريكية CIA حيث يؤكد أحد رجالات CIA: «يسرني أن الـ CIA لم يكن أخلاقيا، فلولا ذلك ما كُنا لننتصر في الحرب الباردة – ضد الاتحاد السوفيتي-».

يعرض فيلم (ألمانيا- صناعة أمريكية) كيف تم إنفاق ملايين الدولارات على النقابات العمالية والصناعة وكذلك النوادي الثقافية والفنية لاستبدال الموروث الثقافي «الألماني النازي» بالنموذج الأمريكي المتحضر، وكذلك على الإعلام وبالأخص المجلات العلمية التي من شأنها أن تحدث تغييرات جذرية يُمكنها أن تسهم في إعادة برمجة العقلية الألمانية، وفعلا فقد نجحت خطط المخابرات الأمريكية في بعث نهضة ألمانيا ، لدرجة أنه في الـ60 من القرن الماضي -بعد 15 سنة من الحرب فقط- كان غالبية الألمان ينظرون إلى أمريكا وكأنها «الجنة».

4. 14 مليون عامل مُهاجر.. ساهموا في نهضة ألمانيا !

الكرم الأمريكي وإعادة برمجة العقلية الألمانية لم يكن كافيا، لإنجاز المعجزة فقد كان هناك نقص حقيقي في القوة البشرية، ولك أن تتخيل أن في ألمانيا وحدها، قُتل في الحرب العالمية الثانية 9 ملايين ألماني، منهم 3 مليون مدني. ولعل لا شيء يُمكن أن يجعلنا نتصوّر حجم هذه الخسائر البشريّة إلا إحصائية موقع دي فيلت الألماني التي أكدت أن الحرب استمرت 2077 يوم، وبشكل أدق 49.842 ساعة و 16 دقيقة، وفي كُل ساعة من ساعات الحرب، كان يموت 1000 إنسان من بينهم 100 جندي ألماني.

بعد الحرب، كان واضحا بالنسبة للألمان، أن ألمانيا بحاجة إلى تعويض هذه الخسائر البشريّة كي تنهض من جديد وفعلاً ففي عام 1955 عقدت ألمانيا اتفاقا مع إيطاليا يتيح لآلاف الإيطاليين بالقدوم إلى ألمانيا للعمل فيها، وهذه لم تكن إلا البداية فقد عقدت ألمانيا عدّة اتفاقية مع إسبانيا، والبرتغال، واليونان وحتى دول إسلامية مثل المغرب، تونس وتركيا حيث جاء منها وحدها 25000 ألف عامل.

حتَّى توّقف استقطاب العُمال الأجانب كان قد وصل إلى ألمانيا 14 مليون عامل زائر، أغلبهم عادوا، ولكن المؤسف أنه بالرغم من اعتراف شخصيات ألمانية بارزة بفضل هؤلاء على نهضة ألمانيا ، إلا أن المختصة في شؤون الأجانب آيدان أوزوز تؤكد بأنه لم يهتم أحد بأمر انخراطهم في المجتمع، ولم يتم الاهتمام بتدريس اللغة الألمانية لهم ، وفي حديث مع بعض أحفاد هؤلاء المهاجرين نجدهم يتحدثون عن مدى صعوبة شراء دجاجة بالنسبة لأجدادهم، فقد كان بعضهم يضطر أن يقلّد الدجاجة كي يفهم البائع بأنهم يريدون شراء لحم دجاج.

الوسوم

محمد بوحدة

محرر ، مصمم مواقع وخبير في الأرشفة

مقالات ذات صلة

إغلاق