fbpx
تاريخ

السلطان سليمان القانوني .. ليس ذلك الذي شاهدتم في حريم السلطان

هو السلطان سليمان القانوني ابن سليم، ويُعرف في الغرب بسليمان العظيم، وهو أحد أشهر السلاطين العثمانيين، حكم مدَّة 48 عامًا؛ منذ عام 926هـ، وبذلك يكون صاحب أطول فترة حُكْم بين السلاطين العثمانيين.

قضى السلطان سليمان القانوني ستة وأربعين عامًا على قمَّة السلطة في دولة الخلافة العثمانية، وبلغت في أثنائها الدولة قمَّة درجات القوَّة والسلطان؛ حيث اتسعت أرجاؤها على نحوٍ لم تشهده من قبلُ، وبسطت سلطانها على كثير من دول العالم في قاراته الثلاث، وامتدَّت هيبتُها فشملت العالم كلَّه، وصارت سيدة العالم؛ تخطبُ ودَّهَا الدول والممالك، وارتقت فيها النظم والقوانين التي تُسَيِّرُ الحياة في دقَّة ونظام، دون أن تُخالف الشريعة الإسلامية التي حرص آل عثمان على احترامها والالتزام بها في كل أرجاء دولتهم، وارتقت فيها الفنون والآداب، وازدهرت العمارة والبناء.

خلف والده السلطان سليم الأول على عرش السلطنة سنة 926هـ-1520م. وبلغت الدولة العثمانية في عهده أوج الكمال والقوة سياسيًا وثقافيًا وعسكريًا، وكان ذا مقدرة كبيرة على التنظيم والتشريع، وكان ورعًا، يستدل على هذا من نسخ القرآن الثماني التي نسخها بنفسه، وهي محفوظة بمسجد السليمانية بإسطنبول، وتمتّع بمهارة عسكرية عالية، شارك بنفسه في ثلاث عشرة حربًا عظيمة، عشر منها في أوروبا وثلاث في آسيا.

نحن الآن في عام 1000 هـ حيثُ الدولة هي الدولة العثمانية والسُّلطان هو الخليفة العثمانية سُليمان القانوني رحمه الله، والذي للأسف لايعرف الكثير من النّاس حياته وأعماله وأبرز مواقفه رحمه الله، وأضحد الأفكار الدنيئة التي صوّروها عن السُلطان سليمان رحمه الله في مسلسل – حريم السلطان – على كاتبيه مايستحقّون من اللعنات.

وُلد رحمه الله في مدينة طرابزون عام 900 هـ/1400م، وكان والده واليًا على تلك المدينة آنذاك واهتمّ به اهتمامًا بالغًا، فنشأ مُحِبًّا للعلم والأدب والعلماء والفقهاء، واشتهر منذ شبابه بالجدّية والوقار، وتولى الحكم عن أبيه كما ذكرت لكم آنفًا، عام 926هـ-1520 م.

وكان عمره آنذاك 26 سنة فقط، وكانت الأعمال التي أنجزها رحمه الله كثيرةً وعظيمةً جِدًَّا، ذات شأن عظيم في حياة الدولة العثمانية بشكل خاص، والمسلمين بشكلٍ عام، وبالفترة الأولى من حُكْمِهِ استطاع أن يُكوّن دولةً ذات سيادة عظيمة وقوية، وضرب على أيدي الخارجين عليها ، بلهاء أغبياء طامحين باستقلالهم عن الدولة العثمانية وتفريق الناس وتشتيتهم! معتقدين أنّ صغر عُمُرِ السطان آنذاك فرصة تسمح لهم بتنفيذ افكارهم الخبيثة، لكن السلطان رحمه الله قضى عليهم واحدًا تِلوَ الآخر، تمرُّد الغزّالي في الشّام، أحمد باشا في مصر، جلبي في قونيا ومرعش، وتعددت ميادين القتال في الدولة العثمانية من أجل بسط نفوذها وسيطرتها على كل من وصلت إليه.

 فشملت أوربا وآسيا وإفريقيا؛ فاستولى على بلجراد سنة (927هـ= 1521م)، وحاصر فيينا سنة (935هـ= 1529م)؛ لكنه لم يُفلح في فتحها، وأعاد الكَرَّة مرَّة أخرى، ولم يكن نصيبها أفضل من الأولى، وضمَّ إلى دولته أجزاءً من المجر بما فيها عاصمتها بودابست، وجعلها ولاية عثمانية.

وفي آسيا قام السلطان سليمان بثلاث حملات كبرى ضد الدولة الصفوية؛ ابتدأت من سنة (941هـ= 1534م)، وهي الحملة الأولى التي نجحت في ضمِّ العراق إلى سيطرة الدولة العثمانية، وفي الحملة الثانية سنة (955هـ= 1548م) أُضيف إلى أملاك الدولة تبريز، وقلعتا: وان وأريوان، وأمَّا الحملة الثالثة فقد كانت سنة (962هـ= 1555م) وأجبرت الشاه طهماسب على الصُّلح وأحقية العثمانيين في كلّ من أريوان وتبريز وشرق الأناضول.

كما واجه العثمانيون في عهده نفوذَ البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، فاستولى أويس باشا والي اليمن على قلعة تعز سنة (953هـ= 1546م)، ودخلت في عهده عُمَان والأحساء وقطر ضمن نفوذ الخلافة العثمانية، وأدَّت هذه السياسية إلى الحدِّ من نفوذ البرتغاليين في مياه الشرق الأوسط. وفي إفريقيا دخلت ليبيا، والقسم الأعظم من تونس، وإريتريا، وجيبوتي، والصومال ضمن نفوذ الخلافة العثمانية.

وفي عهد السلُطان الغازي سليمان نمت البحرية العثمانية نمُوًّا كبيرًا وتطورت منذ أيّام السلطان بايزيد الثاني، زادت قوتها على نحوٍ لم تشهده من قبل، وكان من قادتها المشهورين حتّى عند الغرب وموجود في الكتب الغربية، خيرُ الدين بربروس، كان يقود أسطولًا قويًا يُهاجم به السواحل الإسبانية في البحر المتوسط، وبأوامرٍ من السلطان سليمان قام بهجمةٍ على السواحل الإسبانية وأنقذ بذلك آلآلاف المسلمين، الذين كانوا يتعرضون لإبادة على يد محاكم التفتيش النصرانية، فقام في سنة (935هـ= 1529م) بسبع رحلات إلى السواحل الإسبانية لنقل سبعين ألف مسلم من قبضة الحكومة الإسبانية. ونقلهم إلى المغرب العربي وأنقذهم من القبضة الكافرة التي كانت ستحكم عليهم، لولا لُطف الله بهم.

وقد أوكل السلطان إلى خير الدين بربروس قيادة الحملات البحرية في غرب البحر المتوسط، وحاولت إسبانيا أن تقضي على أسطوله؛ لكنها كانت تُخفق في كل مرَّة وتتكبَّد خسائر فادحة، ولعلَّ أقسى هزائمها كانت معركة بروزة سنة (945هـ= 1538م)

وانضمّ أسطول خير الدين بربروس مع الأسطول الفرنسي تحالُفًا ضد الأسطول الإيطالي ، وساعد خير الدين بربروس الفرنسيين على استعادة مدينة نيس التي كانت بيد الإيطاليين عام (950هـ= 1543م) وهذا الّذي أدّى إلى أن فرنسا تنازلت عن ميناء طولون للإدارة العُثمانية، وصار مركزًا لكل البحرية العثمانية المسلمة، وكان هذا كله من الجانب العسكري في عهد السلطان المرحوم سليمان، ودعونا الآن ننظر إلى الجوانب الأخرى من حياة السلطان سليمان وأنّ الإنجازات الحضارية هي التي تجعل اسم الحاكم خالدًا، وليس الصراعات السياسية والانقلابات وقتل الأعداء والخصوم.

لا ننسى أيضًا أنّ السلطان سليمان كان شاعرًا ذو ذوقٍ أدبي رفيعٍ في المستوى، وكانا خطّاطًا من الطراز الأوّل، وكان مُلِمًا بعلومٍ عدّة منها : البناء والعمار، العلم بالأحجار الكريمة والنفيسة، ويتكلّم عدّة لغاتٍ أيضًا

وبسبب الغنى الكبير الذي حصل في دولته، شيّد الكثير من الأبنية والمنشآت وأنشأ المصانع والمدارس واهتم بالتعليم بشكلٍ كبير، وكانت حصون المسلمين في بلغراد متينة قوية، وعمل على إصلاح جميع بلاد المسلمين بشكل خاصٍ، وكانت العمارة في إسطنبول بارزة جدًّا في زمنه وإلى الآن، وكان إنفاقه على البناء ليس إسرافًا، بل كان ملبيًا لحاجات الناس قبل ذلك، وهذا يظهر عزّ المسلمين وتطور حضارتهم والبناء عندهم، وكان شعاره البشر قبل الحجر.

في عهده رحمه الله ظهر أشهر المهندسين المعماريين في كل التاريخ الإسلامي منهم، المهندس سنان باشا، الذي كان مع الحملات العثمانية واطّلع على كثيرٍ من الطرازات المعمارية، حتّى كوّن طرازًا فريدًا من نوعه خاصًا به، ويعد مسجد السليمانية في إسطنبول من أشهر الأعمال المعمارية في التاريخ الإسلامي الذي بناه السلطان سليمان القانوني وأمر ببنائه وتخطيطه للمعمار سنان باشا، ونرى فنّ المنمنمات من أشهر الرسوم العثمانية آنذاك.

 ولمع في هذا العصر عدد من الخطَّاطين العظام؛ يأتي في مُقَدِّمتهم حسن أفندي جلبي القره حصاري؛ الذي كتب خطوط جامع السليمانية، وأستاذه أحمد بن قره حصاري، وله مصحف بخطِّه، وهو يُعَدُّ من روائع الخطِّ العربي والفنِّ الرفيع، وهو محفوظ بمتحف «توب كابي».

ونذهب إلى الأراضي المقدّسة عند مليار ونصف مسلم من أمّة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل السنة والجماعة، حيثُ كان دوره بارزًا في توسعة بيتِ الله الحرام، ومهّد درب الحّجِّ الشّامي الذي أصبح بعد ذلك سكة الحجاز في عهد السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وعودٌ إلى عهد العصر العبّاسي نرى زوجة الخليفة هارون الرشيد رحمه الله، زبيدة كانت قد أوصلت الماء إلى مكّة المكرمة إلى أن انقطع في عهد السلطان سليمان وتابعت زوجته إكمال ذلك الأمر، فالعبادة كانت مصدرًا رئيسًا في الإسلام ولاشكّ أنّ الحجّ كان كذلك.

وظهر عدد  من العلماء في عهد السلطان سليمان رحمه الله منهم، أبو السّعود أفندي صاحب كتاب، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، فهذه المزايا هي الركن الأساسي للحضارة جنبًا إلى جنب مع العمران وهي الإضافات العلمية والإنتاج العمراني، ومن ذلك بنى السلطان سليمان مكتبة السليمانية وفيها ثمانين ألفَ مخطوطة لم تطبع إلى الآن وهذا من إهمال المسلمين! ووضع نواتها الأولى وثبّتّ مهام قيّم للمكتبة أي المسؤول عنها.

وإلى الآن لم تكن هذه الأسباب سببًا لتسمية السلطان سليمان رحمه الله بالقانوني، الذي اشتهر به السلطان سليمان القانوني واقترن باسمه هو وضعه للقوانين التي تُنَظِّم الحياة في دولته الكبيرة؛ هذه القوانين وضعها مع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، وراعى فيها الظروف الخاصة لأقطار دولته، وحرص على أن تَتَّفق مع الشريعة الإسلامية والقواعد العرفية، وقد ظلَّت هذه القوانين -التي عُرفت باسم «قانون نامه سلطان سليمان»؛ أي دستور السلطان سليمان- تُطَبَّق حتى مطلع القرن الثالث عشر الهجري الموافق التاسع عشر الميلادي.

ولم يُطلق الشعبُ على السلطان سليمان لقب القانوني لوضعه القوانين؛ وإنَّما لتطبيقه هذه القوانين بعدالة؛ ولهذا يعدُّ العثمانيون الألقاب التي أطلقها الأوربيون على سليمان في عصره -مثل: الكبير، والعظيم- قليلة الأهمية والأثر إذا ما قُورنت بلقب «القانوني»، الذي يُمَثِّل العدالة. ولم يكن عهد سليمان القانوني العهد الذي بلغت فيه الدولة أقصى حدود لها من الاتساع، وإنما هو العهد الذي تمَّت فيه إدارة أعظم دولة بأرقى نظام إداري.

وفي أواخر حياة السلطان سليمان رحمه الله أصابه مرض النقرس، ولايستطيع ركوب الخيل، بلغ عمره أربع وسبعون عامًا، علم أنّ ملك الهايسبريغ هجم على ثغرٍ من ثغور المسلمين قام بنفسه للجهاد مع أنّه كان مريضًا بل والله كان قويًّا رحمه الله، وخرج على رأس جيش كبير في التاسع من شوال عام 973 هـ / 1566 م ، وصل إلى مدينة سكتوار المجرية، وكانت من أعظم ماشيّده المسيحيون من قلاع في ذلك الوقت، مشحونة بالبارود والمدافع.

نصحه طبيبه الخاص للسلطان سليمان أن لايخرج بسبب مرضه لأنه قد يودي بحياته وكان ردُّه عليه قائلًا جوابًا خلّده التاريخ

أحب أن أموت غازيًا في سبيل الله

كان يملك تحت قبضته نصف الدنيا وملوك الدنيا يخافون منه رحمه الله، ومع ذلك أبى حياة الترف وماصوّروه في ذلك المسلسل التافه كأشكال الممثلين فيه والكاتبين له، فكان غازيًا وخرج بنفسه وهو لايستطيع أن يركب الجواد، وكان يُحمل في عربة، ووصل إلى أسوار المدينة مع جيشه واشتدّ الحصار لمدة أسبوعين وبدأ القتال، وكان أصعب قتال يواجهه المسلمون آنذاك بسبب متانة الأسوار، واستمر القتال والحصار خمسة أشهر كاملة وازداد الفتح صعوبة مع صعوبة، والمسلمين كانوا لم يروا مثل هذا الحصار، وشعر السلطان بدنو أجله وقال يدعو بدعاءٍ سمعه الحاضرون:

ياربَ العالمين، افتح على عبادك المسلمين وانصرهم واضرم النار على الكفّار أعداءهم

وبالفعل استجاب الله لدعاء السلطان سليمان وأصابت قذيفة من مدفع المسلمين مكان البارود وانفجر البارود بالحصن من داخل القلعة، وأخذ الإنفجار جزءً من الأسوار ورفعها إلى الإسلام، ودخل المسلمون إلى لقلعة ورفعوا الراية العثمانية ووصل الخبر  إلى السلطان سليمان وهو في مرضه وفرح بذلك الخبر وقال:

الحمدلله، الآن طابَ الموت

وخرجت بعد ذلك روحه الطيّبة في صفر عام 974 هـ/ 1566 م إلى بارئها. فهذه قصّة السلطان العظيم عندما تكون الشريعة منهاجًا للحياة مع أن نحسن الإدارة والقيادة نكون قد أنجزنا حضارة. عنما علم المسلمون بخبر وفاة السلطان سليمان عمّهم الحُزن، وعندما علمت أوروبا النصرانية الكافرة وفاته فرحوا أشدّ الفرح بوفاةِ القائد العظيم السلطان سليمان مثلما فرحوا بوفاة السلطان محمد الفاتح أيضًا رحمه الله وكذلك السلطان بايزيد الثاني، فجعلوا يومَ وفاته عيدًا من أعيادهم ودُقّت أجراسُ الكنائس فرحًا بهذا الخبر.

أثناء التشييع قد أوصى بوضع صندوقٍ معه في قبره، وتحيّر العلماء وظنّوا أن ما بداخله كنزٌ أو ما شابه ذلك! لكن الأمر العجيب عندما قرروا فتحه وجدوا بضعة أوراقٍ مكتوب فيها فتاوى العلماء، وأخذتهم الدهشة التي كانت تلك الفتاوى قد حوّلها إلى قوانين إدارية في دولته، وراح الشيخ أبو السّعود أفندي رحمه الله يبكي ويقول :

أنقذتَ نفسكَ يا سُليمان، أيُّ أرضٍ تُقِلُّنا وأيُّ سَماءٍ تُظِلُّنا، إن كُنّا مخطئين في فتوانا

رحم الله السُلطان القانوني سليمان عندما قال قبل وفاته:

عندما أموت اخرجوا يدي من التابوت لكي يرى كل النّاس أنّه حتى السلطان خرج من هذه الدنيا ويده فارغة

الوسوم

محمد بوحدة

محرر ، مصمم مواقع وخبير في الأرشفة

مقالات ذات صلة

إغلاق