fbpx
رأي

تشريح الثورة : كيف تبدأ الثورة ؟ وكيف تنتهي؟

في عام 1938 كتب المؤرخ والكاتب الأمريكي”كرين برينتن” كتابا أسماه “ تشريح الثورة ” برينتن الذي يعد قامة أكاديمية وفكرية كبرى بحصوله على الدكتوراه بجامعة أوكسفورد، والأستاذية بجامعة هارفارد، تتبع بالدراسة المتعمقة 4 من أهم الثورات في التاريخ الإنساني وهي: الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة البلشفية بروسيا والحرب الأهلية الإنجليزية.

وحاول برينتن أن يؤصل في كتابه- الذي أعاد طبعه في 1956 و-1964 بشكل علمي المراحل التي تمر بها “الثورة” بشكل عام، ويعد هذا الكتاب مصدرا أساسيا لتفسير الثورات وألهم العديد من الكُتَّاب لاحقا تأليفَ كتب يحاولون من خلالها تفسير التغيرات في المشهد السياسي لبلادهم من منطلق مراحل الثورة التي وضعها “برينتن”.

وفي هذا التقرير نلخص أهم المراحل التي اشتركت فيها الثورات الأربع بحسب كتاب “تشريح الثورة” ونستعرض 4 مراحل للثورة، ونركز بشكل أساسي على مراحل ما بعد إسقاط أول “ديكتاتور” والشد والجذب الذي يعقب تلك المرحلة حتى الوصول إلى المرحلة الأخيرة بالثورة :

1- المرحلة التمهيدية (الأعراض)

تبدأ تلك المرحلة بالتنافر الطبقي الذي ينشأ في المجتمع؛ نتيجة لعدم كفاءة الحاكم، وتكون الطبقة الوسطى هي المحرك الأساسي للثورة بسبب قيود فرضها الحاكم على الشعب مما يؤدي إلى سخط شديد، وتحاول الدولة استخدام القوة، ولكنها تفشل وينهار الجهاز البيروقراطي لها، ويتخلى المثقفون الذين قد يمثلون ضمير الأمة عن الحاكم مما يعجل بإسقاطه.

2- الحمى الصاعدة

يعرف الكاتب المرحلة الثانية من الثورة بالحمى الصاعدة إذ يتصاعد السخط في الطبقة الوسطى، وينتقل منها إلى باقي الشعب، وتنشأ المواجهات بين الشعب والحكومة وتتوج بمعركة مصيرية ينهار فيها الجهاز الحكومي تحت ضغط الانتفاضة والانهيار المالي، ثم يشكل المعتدلون أو الوسط السياسي الحكومة الجديدة التي يطلق عليها الحكومة المعتدلة، لكنها تعجز في إدارة الدولة، ومواجهة التحديات والأزمات الاقتصادية، ووضع دستور جديد على سبيل المثال، وتمر تلك الفترة بعدة مراحل وخطوات هامة نفصِّلها في السطور الآتية:

شهر عسل قصير !

يتحدث كرين برينتن عن فترة سماها بشهر العسل، فبعد سقوط النظام تظهر خطب “المنتصرين” أنهم غير مجمعين على ما يفعلونه لإدارة شئون البلاد ودائما ما يتولى المعتدلون- وهم الذي كانوا في أعلى مراتب المعارضة للحكومة القديمة- السلطة والمسئولية بشكل شبه تلقائي.

ويشير الكاتب إلى أنه بمجرد تولي المعتدلين للحكم حتى يتبين أنهم أقل تجانسا وانضباطا مما بدا عندما كانوا في صفوف المعارضة، وتتراكم عليهم عدد من المهمات العسيرة بإصلاح المؤسسات القائمة ووضع دستور جديد، بالإضافة إلى تسيير متطلبات الحكم العادية، والأصعب هو سرعة وجود أعداء مسلحين من الراديكاليين والمتطرفين” الذين يصرون على أن المعتدلين كانوا يحاولون وقف الثورة وأنهم قد خانوها، وأنهم سيكونون مثل حكام العهد القديم، بل أسوء كثيرا لأنهم خونة وحمقى وأوغاد”

السيادة الثنائية

يتحدث برينتن عما سماه “السيادة الثنائية” والتي حدثت في الثورات الأربع، وهي تتبلور بأن معارضي الحكومة الشرعية ليسوا فقط مجرد أحزاب وخصوم سياسيين، بل حكومة منافسة “غير شرعية” ولكن أكثر تنظيما وذات موظفين أفضل، وتطاع على نحو أكبر، ويبرز دورهم بشدة في الأزمات الثورية؛ فيتصرفون بنحو طبيعي محل الحكومة الشرعية.

ويشير الكاتب إلى أن تولي الحكومة في المراحل المبكرة للثورة مصدر ضعف وليس قوة، وتصبح الحكومة الشرعية غير شعبية نسبيا لدى الكثيرين للسبب نفسه الذي يجعلها حكومة واضحة ومسئولة؛ لكونها مؤسسة لديها موارد مالية وسيطرة نسبية على مؤسسات الدولة، ويفقد “المعتدلون “الرصيد الذي حصلوا عليه بوصفهم معارضين، وتزداد الشكوك حول قدرتهم على تحقيق الآمال والطموحات المرتفعة للشعب عقب الثورة، ويتحول موقفهم من الهجوم سلفا إلى موقف الدفاع الذي لم يألفوه؛ فتتكاثر الأخطاء الذي يرتكبوها.

وعلى العكس فإن حكومة المتطرفين غير الشرعية لهم سمعة شعبية أفضل يستطيعون من خلالها الادعاء بأنهم كانوا في طليعة الثورة، ولديهم مسئوليات أقل نسبيا، ولو بشكل مؤقت عن الحكومة الشرعية.

وأثناء محاولة المعتدلين مواجهة المتطرفين تتبادر 3 اختيارات أمام الحكومة الشرعية إما بقمع الحكومة غير الشرعية أو محاولة التحكم فيها أو تركها وشأنها، وبين التشتت بين الخيارات الثلاثة ومحاولة الجمع بينهم أحيانا، ينتج خيار رابع يشجع الحكومة غير الشرعية بشكل إيجابي.

وبحسب الكاتب فإن المعتدلين دائما ما يكونوا مؤمنين بحرية الرأي والتعبير ووسائل الإعلام، وعندما يشرع المعتدل- تحت الضغط- في قمع صحيفة متطرفة أو سجن زعيم متطرف، فإنه يشعر بتأنيب الضمير، ويستغل المتطرفون الذين لم يتعرضوا للقمع الأمر، ويثيرون الضجة بزعم أن المعتدلين يخونون الثورة، وأنهم يستخدمون نفس وسائل طغاة العهد القديم.

وفي نهاية المطاف ينتصر الثوريون على المعتدلين، ليهرب المعتدلون إلى المنفى أو يودعوا في السجون ليواجهوا المقصلة أو الإعدام أو إذا كانوا محظوظين تواروا عن الأنظار، وَلَفَّهم النسيان” ويتولى الثوريون المتطرفون السلطة في سيادة موحدة”.

فشل المعتدلين

“مأساة كبرى” هكذا يوصف فشل المعتدلين، بالنسبة لمن سماهم الكاتب بالطيبين “الذين كتبوا التاريخ الذي نحصل منه على أفكارنا عن الثورات الحديثة” ويصف الكاتب المعتدلين على أنهم دائما ما ينظر إليهم على أنهم” أناس صالحين هزمتهم الظروف والخصوم المجردون من المبادئ الأخلاقية، ويبدون مثاليين سحقهم عالم قاس إلا أنهم واثقون بالبعث الذي يمنح التاريخ للعادلين.”

ويقول الكاتب لعل المعتدلين أفضل أخلاقيا من خصومهم” وفي رأي الكاتب فإن المعتدلين لا يؤمنون حقا بكمال سماوي يهبط فجأة على الناس في الأرض، إنهم جميعا يدعون إلى الحلول الوسط، والإدراك االسليم والاعتدال والعون وهذا جزء من قوتهم الذي قد يمنحهم السيطرة على أطياف عدة في المجتمع.”

3- مرحلة الأزمة



الأزمة” تبلغ الثورة الذروة عندما يصبح المعتدلون عاجزين عن أداء مهمة حكم البلاد، ويطوح بهم المتطرفون أو اليسار السياسي بالقوة، ويبدأ حكم الإرهاب حيث يشرع المسرفون في التطرف بالتخلص من المعارضة باستخدام العنف. كمـا تتورط الحكومة الجديدة عادة في حرب خارجية في محاولتها نشر مبادئ الثورة. وتصبح الحكومة وسط حرب المتطرفين بالداخل والحرب الخارجية، وتتفاقم الأزمات الاقتصادية، وبالتدريج تبدأ الثورة بفقد زخمها ولا يعد الشعب يساندها إلا خوفا من التطهير” وفي السطور الآتية تحليل أكثر عمقا لتلك المرحلة:

“يربح المتطرفون لأنهم يضمنون السيطرة على الحكومة غير الشرعية وتحويلها إلى انقلاب حاسم على الحكومة الشرعية”

وبذلك تتشكل “الأزمة” التي تسبب فيها المتطرفون الذين يتميزون بقلة عددهم مع إيمانهم المتعصب والشديد بقضيتهم، وتعد هذه أحد أبرز مميزاتهم في العمل السياسي إذ تصعب إدارة الأعداد الكبيرة كما هو الحال في ميدان القتال، ولا يمكن مواصلة حُمَّى التطرف في عدد كبير من الناس لفترة طويلة فـ”الجماهير لا تصنع الثورات” ولكنها يمكنها المشاركة في بعض المواكب المؤثرة حتى تنتصر القلة “النشيطة” في الثورة، تلك القلة التي تمتلك التصميم والطاقة والانضباط والحراك السريع المنظم.

واستخدم المتطرفون مهارتهم المنضبطة في تحقيق أهدافهم الثورية من خلال تكوين جماعات ضغط ناجحة تقوم بـ:”الدعاية وحشد الناخبين، والتأثير على القضاة والمشرعين، وقتال الشوارع، والمقاومة غير العنيفة”، إذا المتطرفون غير أبرياء، ولديهم خبرة طويلة في التدريب المكثف على الحكم الفعلي قبل أن يتولوا السلطة بشكل كامل.

“ها هنا تفويضي”

هكذا أجاب كورنيت جويس قائد ما يسمى “الجيش الجديد” بإنجلترا مشيرا إلى جنوده المصطفين بالساحة، عندما سئل من خولك حق الإطاحة بالملك تشارلز الأول من الحكم والقبض عليه ليحكم الجيش مكانه؟

ويقول الكاتب أن هذا الجواب كان موجودا في الثورات الأربعة، ويوضح:” حالما يتولى المتطرفون السلطة لا يعود هناك احترام للأشكال الشرعية وبعد المطالبة الصاخبة بالحرية والتسامح الديني أثناء فترة المعارضة يتحولون إلى استبداديين عندما يتولون السلطة”.

وأثناء حكم المتطرفين ينتشر ما يصفه الكاتب بـ”الإرهاب” أي حالة الخوف لدى المواطنين، ويمكن لبلدة أو قرية أن تشهد ثورة هادئة وفي بلدات وقرى أخرى كما في العاصمة مثلا يكون الإرهاب هو المسيطر.

وتبرز في تلك الفترة فشل الحكومات في تنظيم الحياة الاقتصادية والسيطرة عليها، وتشهد ندرة لجرائم العنف،بالرغم من انتشار الفساد بين الإداريين في النظام، واحتمالية عدم قدرة الدولة على حفظ الأمن والسلام.

وتستمر فترة الأزمة لمدد قصيرة إما بضعة شهور أو بضعة سنوات على أقصى تقدير.

 الأزمة لم تنتهِ بعد!

“إن أكثر شخص تواضعا وأكثر شخص لا مبالاة بالسياسة لا يعرف متى يصعقه البرق هو أو أسرته ومتى يساق إلى المحكمة كعدو طبقي أو مناهض للثورة”

هكذا يوصف الكاتب حال الأشخاص العاديين “اللا منتمين” أثناء فترة الأزمة بحكم المتطرفين، ويضيف:” يُمنع المواطن العادي من متعه العادية، ويرغم على الكفاح أو على الأقل الهتاف طويلا وعاليا للدولة الثورية في صراعها مع الأعداء الخارجيين والمدنييين،، ويتعرض إلى المعاناة من الندرة التي ترافق الحرب والعيوب المحتملة في الحكومة الجديدة، ويحث على الاستجابة إلى ذروة الظروف الثورية في الصحافة والمسرح ومنبر وعظ ومظاهرة جماهيرية، ويورط على نحو لا مفر منه في الاهتياج العصبي والمرهق الشائع التي تتسم به فترة الأزمة فيجد إن عاجلا أو آجلا أن هذه الضغوط لا تحتمل ويستعد للترحيب بكل من يستطيع وضع حد لها.. ويبدو مرجحا أن ثمة نوعا من نقطة الإشباع في الدعاية السياسية المفرطة التي تؤدي إلى نتائج عكسية”

أما عن الثورة بالنسبة لـ” المنتمي “والمؤمن الحقيقي في وقت الأزمة “يصبح تدريجيا أقرب للامنتمي؛ فبعد مدة تبدأ الثورة في استنزافه ويشرع في الإعراب عن التردد والشكوك، ويبدأ الشعور بالملل من المراسم التي لا تنتهي والتفويضات واللجان والمحاكمات وعمل المليشيات والنشاطات الأخرى الضرورية لتحقيق سيادة الفضيلة في العالم، غير أن المخلصين حقا يبقون إلى النهاية إلى قطعة الخشب التي يوضع عليها رأس المحكوم عليه بالإعدام ..يبدو أن هذا المنتمي يجد في خدمته المخلصة للثورة معظم الرضا النفسي الذي يزوده به الدين”

الصراعات الطبقية

دائما ما يحرك المتطرفين دوافع اقتصادية للتعامل مع معارضيهم، إذ تشاركت المجتمعات الأربعة في الصراعات الطبقية، وكان دائما ما تصادر الأحزاب المنتصرة التي تعتبر نفسها “الشعب” أملاك الكثير إن لم يكن معظم من: “يعلنون بعناد بأنهم من الأحزاب المهزومة”.

النقاهة- مرحلة الخلاص

يعرف الكاتب هذه المرحلة بفترة “النقاهة” والتي تبدأ بما يسمى العودة البطيئة غير المنتظمة إلى الهدوء فمع تزايد ضعف الثورة تدخل البلاد فترة الانتعـاش، ويتولى السلطة حاكم مركزي قوي في الحكومة الجديـدة، ويشرع في عملية إعادة الاستقرار إلى البلاد. ويستبعد ويقمع زعماء الثورة الأكثر عنفا وتطرفا. كما يُمنح المعتدلون عادة العفو. ويبـدأ الناس في التخلص من أي علامات باقية من علامات الثـورة ويغيرون ملابسهم وأسلوب حياتهم في محاولة لنسيان الثورة، ويتخلون فـي تلك العملية عن الكثير من العقائد المتسمة بالتطرف التي يؤمن بها الثوريون .”

الخلاصة

يستنتج الكاتب أن الثورة تعود في النهاية لنظام أقرب للنظام التي قامت عليه الثورة في الأساس ! مع تطبيق بعض الإصلاحات التي تطيح بأسوأ ما كان عليه النظام القديم، غير أن الوضع في مجمله يصبح مشابها لفترة ما قبل الثورة، ولا يمكن وصف التغيير الذي تحدثه الثورة بـ”الجوهري”.

الوسوم

محمد بوحدة

محرر ، مصمم مواقع وخبير في الأرشفة

مقالات ذات صلة

إغلاق