تاريخ
الحجاج ابن يوسف الثقفي ، هل ظلمه التاريخ و المؤرخون ؟
يعتبر الحجاج ابن يوسف الثقفي من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل حتى يومنا هذا، ويضرب به المثل في الظلم وسفك الدماء، فبالرغم من أن معظم المؤرخين يتفقون على بطشه وظلمه في كتاباتهم، فإن قلة قليلة من المؤرخين أنصفوه.
وحتى نتعرف على الحجاج أكثر علينا أن نطّلع على بداية حياته في الطائف، فهو كليب أبو محمد -سمّى نفسه الحجاج لاحقاً- بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، السفياني الثقفي، وأمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الجليل، وُلد الحجاج عام 660 ميلادية في الطائف كما ذكرنا سابقاً، وقد تتلمذ على يد والده، وكما تذكر المصادر أنه كان بليغاً فصيح اللسان، تقياً ورعاً يعظم القرآن وغيرها من الصفات النبيلة.
بدأ الحجاج حياته معلماً للصبية القرآن الكريم، وكانت حياته مستقرة وهادئة حتى تعرّض لموقف قلب حياته رأساً على عقب إلى الأبد؛ حيث وقع بينه وبين صبية من “ذهل” خلاف، فقام أحد رجال الشرطة بصفعه على وجهه بسياط، فكان وقع هذا الحدث شديداً في نفسه، فعزّت عليه كرامته أن يهان بهذه الطريقة وهو يرى نفسه بريئاً، فقرر من يومها الهجرة إلى الشام وهو حاقد على ابن الزبير ودولته في الحجاز، وانضم إلى فريق عبد الملك بن مروان، وعمل في شرطة الشام وأثبت نفسه، فأوصى به قائد الشرطة روح بن زنباع الخليفةَ عبد الملك بن مروان، الذي عيّنه في مناصب عدة فأثبت نفسه فيها بكل جدارة، فرأى عبد الملك بن مروان فيه الشخصية الأقدر التي يمكن أن يثق بها ويبطش بها على أعدائه.
في عام 693 ميلادية سيّر عبد الملك بن مروان جيشاً بقيادة الحجاج ابن يوسف الثقفي ، للقضاء على دولة ابن الزبير في الحجاز، وقد حاصر الحجاج مكةَ وقصفها حسب بعض الروايات بالمنجنيق، فتهدمت بعض أجزاء الكعبة، وهنا لشيخ الإسلام رأي آخر، فيقول في الصحيح (5|264): “والحجاج بن يوسف كان معظماً للكعبة ولم يرمها بالمنجنيق”، ويضيف في موضع آخر (1|502): “والحجاج بن يوسف لم يكن عدواً لها ولا أراد هدمها ولا أذاها بأي وجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق أصلاً”.
وبعد القضاء على دولة ابن الزبير في الحجاز، عيّن عبد الملك بن مروان الحجاجَ على الحجاز واليمن واليمامة، فضاق به أهلها حسب بعض المصادر، فشكوه للخليفة الذي عزله عن ولاية الحجاز وعيّنه على ولاية العراق في عام 694 ميلادية، وبهذا التعيين يمكن القول إن البداية الحقيقية للحجاج بدأت في العراق.
تميز العراق عن غيره من بلاد المسلمين في ذلك الوقت بكثرة الاضطرابات والفتن، ربما بحكم الحركة العلمية في البصرة والكوفة التي زادت من وعي العامة، إضافة لوجود معارضة ضد بني أمية من الخوارج وبعض فقهاء ورجال العراق.
بدأ الحجاج سُلطته في العراق بخطبته الشهيرة التي حفظها لنا التاريخ: “أما والله فإني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لَصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى…”.
وبما أن العراق كانت تمر بحالة اضطرابات وفوضى، فقد وجد الحجاج نفسه مجبراً “مجبر أخاك لا بطل” على إعادة الأمور إلى نصابها، وبحكم كثرة الاضطرابات والفتن والثورات في العراق، كان لا بد من الحسم حتى ولو على حساب الأبرياء.
نعم قد يكون الحجاج ابن يوسف الثقفي ظلم هذا وسجن هذا وقتل هذا، ولكن الأمور وقت الفتن تتداخل فيصبح المرء في حالة من عدم اليقين هل هو على حق الصحيح؟ أو على باطل الخطأ؟، إضافة إلى أن تاريخ دولة بني أمية كُتب في عهد الدولة العباسية التي أنهت وجود دولتهم، فمن الطبيعي في ذلك الوقت أن يتم تشويه تاريخ بني أمية ورجالهم كأمثال الحجاج.
فالحجاج خلال حكمه الذي تعدّى عشرين عاماً، تمكن من القضاء على الفتن والفوضى في ربوع العراق، ولاحق الخوارج إلى خارج العراق، وتمكن من قتل زعيم الخوارج قطري بن الفجاءة في ذلك الوقت.
ومن إنجازات الحجاج ابن يوسف الثقفي قيامُه بالعديد من الإصلاحات، فقد عرّب الدواوين وأصلح العملة وأصلح الأراضي الزراعية، كما منع بيع الخمور وأمر بعدم النّواح على الموتى، وبنى الجسور على الأنهار في العراق، وأقام الصّهاريج لتخزين مياه الأمطار، كما أمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمارّة.
ومن أعظم إنجازاته العمرانية بناء مدينة وسط بين البصرة والكوفة وفي عام 702م، والتي استمر بناؤها ثلاث سنواتٍ وعند انتهائه منها اتخذها مقراً لحكمه.
أما على الصعيد الخارجي فقد بعث الحجاج الجيوش لنشر الإسلام في البلدان الأخرى، فقد فُتح في عهده بلاد ما وراء النهر بما تعرف اليوم بكازاخستان وأوزبكستان، كما بعث ابن عمه محمد بن قاسم الثقفي إلى بلاد الهند والسند، ففتح مدنها ونشر الإسلام في ربوعها، وإن كنا سوف نتحدث عن إنجازاته فلن تسعفنا هذه المقالة.
أما عن وفاة الحجاج، فقد توفّي ليلة السابع والعشرين من رمضان عام 95هـ/ 714 م حسب الروايات المجمع عليها، وسبب الوفاة كانت نتيجة إصابته بسرطان المعدة، وقد قال قُبَيل وفاته بعض أبيات الشعر، ومنها:
يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا *** بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ؟ وَيْحَهُمُ *** ما عِلْمُهُمْ بكريم العَفْوِ غَفَّارِ؟
فأخبر بذلك الحسن فقال: “تالله إن نجا لينجون بهما”.