سياسة
سياسة التدرج مع المنافسين لعبة النظام المغربي بالتخصص
التدرج سنة كونية وحقيقة مثبتة لا مراء فيها، وهو في علم السياسة مفهوم معاكس للتغيير بالصدمة، فإن كانت الثورة والهبّة والانتفاضة، آليات للتغيير الصدامي، فإن سياسة التدرج تنظر للتراكم بصفته المحرك الرئيس وعصب التغيير.
وقد وجد حزب العدالة والتنمية المغربي، في مبدأ التدرج عنصر جوهر استمد منه فلسفته في السياسة، ورؤيته لـ«الإصلاح». وتتبع مسار الحزب منذ نشأته يؤكد تنزيل الحزب للمبدأ، فقد انتقل من الصراع مع الملكية أيام الشبيبة الإسلامية (وهي النواة الأولى)، إلى القبول بالملكية، ثم إلى العمل مع الملكية واعتبارها شريكًا في الإصلاح. وانتقل من 9 مقاعد سنة 1997 إلى 42 سنة 2002، ثم إلى 46 سنة 2007، وصولًا إلى قيادة الحكومة سنة 2011، ثم تعزيز القوة بحصد 18 مقعدًا إضافيًا في استحقاق أكتوبر الأخير.
لكن طبيعة سياسة التدرج تفرض آثارًا جانبية، أو لنقل مسارات لا تنفصل، تظهر معالمها العكسية لدى الحزب في منفذين اثنين، الأول يهم الخطاب المرفوع واللغة المستعملة، والثاني يخص تنزيل الخطاب وترجمته إلى سياسات تنشأ عنها تراجعات أو تنازلات.
– على مستوى الخطاب رفع الحزب حين دخل انتخابات نوفمبر 2011، شعار «محاربة» الفساد، وهو شعار مستعار ومجتزأ من شعار حراك 2011 (إسقاط الفساد والاستبداد)، فالحزب اكتفى برفع محاربة الفساد، ولم يلتقط (الاستبداد) لأن اللفظة تحمل في طياتها معالم المواجهة، فما الاستبداد إلا استئثار بالرأي وانفراد بالقرار، من قِبل نظام حُكم، ورفع مطلب إسقاط الاستبداد منازعة وطلب اقتسام.
ثم مضى الحزب في تليين عباراته المباشرة، من تسمية (صديق الملك) وكذا كاتبه الخاص باسميهما وصفتيهما في خطاب عبد الإله بنكيران الشهير في أوج حراك 2011، ورفض تلقي الأوامر عبر الهاتف، إلى تبني التلميح والتمويه الخطابي، عبر استولاد ألفاظ العفاريت والتماسيح في مرحلة أولى ثم التشويش في مرحلة ثانية، بعد الخروج المريب لحزب الاستقلال من الحكومة سنة 2013، ثم تبني خطاب مواجهة التحكم في مرحلة ثالثة، انتهاء بالتخلي شبه التام عن استعمال اللفظة (التحكم) بعد توالي التقريع، إن بصفة مباشرة من ملك البلاد عبر خطاب غشت الذي وصف تصريحات بنكيران بـ«المسيئة لصورة المغرب»، أو بطرق التوائية عبر إعلام الموالاة وأعلام السلطة ومحلليها السياسيين.
هذا الجرد لا ينبغي أن يُغفل أيضا تدرج الخطاب من الفترة البنكيرانية إلى ما تلاها، فالحزب استقبل بلاغ الديوان الملكي الذي أنهى تكليف بنكيران، بحذر لا يخفي في ثناياه نزرًا من قوة، إذ أعلن تشبثه بشروط بنكيران ولمّح إلى إمكانية إعادة المفاتيح والنزول للمعارضة بكل الثقل، إن لمَس الحزب ابتزازًا أو استمر الضغط عليه.
لكن نار «التدرج العكسي» سرعان ما اتقدت، لتحرق شروط بنكيران وتُبخر عبارات «الإرادة الشعبية» و«نتائج 7 أكتوبر».
التدرج العكسي في سياسة الحزب: مع انطلاقة الحراك الديمقراطي في البلاد العربية ووصوله إلى المغرب، بدا لكل متتبع للشأن السياسي أنه لا بديل واقعيًا لإمساك مقاليد (الحكومة) في المغرب، مهما بلغ سقف المطالب ونتائج الحراك، عن الحزب الإسلامي، ليس فقط لأن نسائم الثورات حملت إخوانه في أغلب بلدان الثورة، بل لأنه الأقوى تنظيميًّا والأكثر تغلغلًا شعبيًّا، والأقدر على التعبير عن انتظارات فئات عريضة من الشعب من بين كل التيارات المعارضة، لكن الحزب آثر -رسميًّا- الوقوف ضد الحراك؛ ولم يكتف بذلك، بل شغّل ترسانته الخطابية للتشكيك في دواعي النزول إلى الشارع وتبعاته، رغم أن جزءًا من شبابه كان عنصرًا فاعلًا في الحراك (حركة باراكا) وإن بشكل محدود.
هذا التحذير واكبه تبشير بانفتاح (قوس الديمقراطية) بعد خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس 2011، تبشير واكبته جرعات من الجرأة الكلامية، التي لم تترجم إلى تنظير مكتوب قابل للتنزيل، ليُقدم الحزب الذي يحمل إرث معارضة معتبرًا، مذكرة جد محتشمة للتعديل الدستوري، لينتقل في مرحلة تالية إلى دعم الوثيقة التي أفرزها التعديل، والدعوة إلى التصويت بنعم في استفتاء يوليو 2011.
فالحزب إذن انتقل من معارضة النظام (قبل 2011) إلى معارضة معارضي النظام (إبان حراك الشارع)، فالدفاع عن النظام للخروج من الأزمة، فمساعدة النظام (2012-2016)، تمهيدا لاستحالته جزءًا من النظام، وهو أمر كان يبدو مستحيلًا إلى زمن قريب، لكنه اليوم أقرب للتصديق بسبب تنازلات رئيس الحكومة الجديد سعد الدين العثماني غير المقبولة، ولغة أدرع المخزن الداعمة لحكومته الهجينة.
ولا زال مقص سياسة التدرج مستمرًا إلى اليوم، فقبول قواعد الحزب وبعض قيادييه وبرلمانييه بالأمر الواقع، كان بعد صفعة طرد بنكيران وتنازلات العثماني أمرًا غير مستساغ، فبرزت دعوات للاحتجاج أمام مقر الحزب، وتصاعدت المطالبات بترك مسافة بين الحزب وحكومة (الإهانة)، بل إن مطالب دعت إلى إسقاط الحكومة بعدم منحها الأصوات الـ125؛ بدأت تأخذ طابع الجدية، فبدا التحقق ممكنًا. لكن ما الذي حصل بعد أن تدخلت كف التدرج لتحريك عجلة النسيان؟ أُلغيت الوقفات الاحتجاجية وخفتَ صوت النقد، ورُفعت الأيدي -كل الأيدي- لدعم حكومة سُلخت عنها لفظة الإهانة، فغدت بفعل سحر التبرير (حكومة العدالة والتنمية).
بعد كل هذا يأتي السؤال الجوهري، هل كان رأس بنكيران هو المطلوب من قِبل الدولة المحركة ل سياسة التدرج والنسيان؟
لو كان الأمر كذلك لما تردد رئيس الدولة في تكليف غيره في 10 أكتوبر، فلا النص الدستوري يقيده ولا الإرادة «السامية جدا» تعوزه، لكن القصر يجيد الاعتماد على سياسة التدرج ، التدرج في تكسير القوى وإضعاف التيارات وتمييع المؤسسات الحزبية.
سياسة التدرج هذه ليست وافدة أو طارئة، وليس «طرد» بنكيران أول خطوة في خارطتها، بل إن التدرج نحو الهاوية والعودة إلى السلطوية وتلبية نداء الحسن، طريق سارت فيه الدولة منذ قررت إغلاق القوس شبه الديمقراطي، الذي فُتح اضطرارًا لا اختيارًا بسبب الحاجة إلى تحقيق انتقال سلس للسلطة 1999- 2002.
فما إن اطمأنت الدولة لخروجها من مرحلة الحرج و«السكتة القلبية»، حتى طردت عبد الرحمان اليوسفي، نقول طردت لأن الرجل حُرم من منصب رئاسة استحقه بعد تصدر حزبه لنتائج الاقتراع، فالأمر أشبه بطرد تعسفي تمارسه شركة في حق موظف اجتاز بنجاح اختبار ترقية، فتلقى قرار الطرد بدل بطاقة التهنئة ومفاتيح المكتب.
خارطة طريق استمرت بفصل جديد هو إضعاف حزب المصباح الناشئ، وتقويض جهوده الساعية إلى تحقيق الانتشار بتحميله مسؤولية (ما) عن أحداث 2003. ليستمر التخطيط السلطوي الدقيق فيمر من مرحلة الصد إلى الهجوم، ليُنجب مولودًا سلطويًا سنة 2007 أَسنَد إليه مهمة الحكم بالوكالة فيكتسح إذ ذاك الاقتراع في 2009 ويستعد لحمل كل المفاتيح.
وبقية القصة معلومة لدى القاصي والداني، فرياح التغيير العربية أجبرت الحاكمين على تأجيل المخطط، ووضعه في دُرج الانتظار.
الجواب عن السؤال يتطلب أيضًا إمعان النظر في طريقة الدولة في التعامل مع المؤسسات الحزبية، وهو متشابه وإن اختلفت تفاصيل تنزيله، وخطه العريض عزل القيادة عن القاعدة، ومهاجمة الشخص المؤثر أولا في أفق تحقيق أحد أمرين: تفجيرُ الحزب أو احتواؤُه.
نهجت الأمر ذاته مع الاتحاد الاشتراكي حين أسقطت القيادة (اليوسفي) وراهنت على تخلي الحزب عنه وتركِه وحيدًا دون سند، وذلك ما حصل، ليسهل إذ ذاك عليها احتواء الحزب وتمييع مستوياته، لتغدو وفاته مسألة وقت. ذات الأمر نهجته حديثا، مع حزب الكتاب حين قصف بلاغ الديوان الملكي نبيل بن عبد الله بسبب تصريحاته (الصحيحة) عن علاقة الجرار بالمستشار، لكن حزب «علي يعتة» اختار التشبث بزعيمه فلم يُقذف نبيل إلى منفى اختياري أو إجباري، خارجي وداخلي، واستمر عمره السياسي إلى أجل لاحق.
محاولة العزل طالت حزب علال الفاسي بذات النهج، وإن بوسيلة مختلفة حين انبرى مستشار البلاط لمهاجمة حميد شباط من على منصة عمومية، فيما تكفلت الأصوات التابعة بتسويد صورته في المنصات الخاصة، لكن حزب الميزان آثر حلا (معتزليًّا) فأبقى زعيمه في منزلة بين اثنين، فلا هو سَنده وتشبث به ولا هو أسقطه واستعاض عنه.
أسلوب السلطة إذن واحد وإن اختلف الزمان والسياق، والرهان على تعامل الحزب فإما أن يدفن قيادته التي اغتالتها السلطة سياسيًّا، وهو ما اختاره رفاق الوردة وإخوان المصباح، حين تركا زعيميهما في مقبرة الاغتيال، وإما أن يتشبث الحزب بقيادته في انتظار محاولة اغتيال قادمة، وهو الثمن دفعه حزب الكتاب نظير دعمه لزعيمه لتتقلص أوراقه إلى 12 في الانتخابات الأخيرة، وما زال الاستقلال يعاني آثار التشقق إلى اليوم.
إن الإصرار على سرد التفاصيل وضرب المقارنات، ليس الغرض منه بسط مسلسل الأحداث، بل هو تذكير بأن تكرار التاريخ لنفسه حاصل، وأن النسيان مقبرة طالبي الإصلاح، فما أفشل ثورات الشعوب وانتفاضات الأفراد وجهود المصلحين إلا أنهم وضعوا أهدافًا وسنُّوا خططا ورسموا خطوطًا حمراء أقسموا على عدم تجاوزها، لكنهم انخدعوا بفلسفة التدرج وتجرعوا سحر تبريراتها، فلم يستفيقوا إلا على سقوط المبادئ وانمحاء الحدود وانكشاف السوءة.