صحة
صناعة الغباء : كيف نصنع مجتمعا من الأغبياء و النمطيين ؟!
طوال الوقت يشكو الناس من انتشار الغباء، يرجعون كل المشكلات الإنسانية التي تمر بهم إلى أفعال غبية تصدر من أناس أغبياء، فهل الغباء هو قصور عقلي فطري أم يمكن صناعة الغباء بعد مرور ببعض الخبرات والتجارب الحياتية؟!
بداية هذا هو أحد تعريفات الغباء الذي حاول الكثير الوصول لتفسيره.
يُنظر إلى الغباء باعتباره حالة عقلية، لا ينقصها علم أو دراسة وهذا ما يميزها عن الجهل، إلا أن كلا من الجهل والغباء يؤدي إلى سوء التكيف مع الواقع والتصرف في عكس اتجاه المصلحة وذلك تحت ظروف اختيارية حرة دون قسر أو إجبار، فيفقد الإنسان التأقلم مع المعطيات الجديدة وبالتالي تصدر أفعاله منافية للمنطق وللمصلحة.
من خلال هذا التعريف فالشخص الغبي هو الذي يفقد القدرة على الربط بين الواقع الربط الصحيح ليصل إلى نتائج صحيحة ويتخذ القرارات التي تصل به إلى الفائدة المرجوة وصولًا إلى تحقيق المصلحة لمجتمعه وبيئته. فما هي الأمور التي تجعل الإنسان يفقد هذه القدرة على الربط العقلي بين الأمور فيصبح حكمه مشوشًا وأفعاله تتسم بالغباء؟
الإنسان ابن بيئته كما يقال، منذ الساعات الأولى لولادته يقع الفرد تحت تأثير الأسرة مرورًا بتأثير دولته المتمثل في المدرسة والإعلام وبيئة العمل، إلى جانب حياته الشخصية وتواصله مع الأصدقاء عبر الواقع الفعلي والواقع الافتراضي المتمثل في الإنترنت.. وعلى هذا سوف نستعرض أهم الأمور التي يتعرض لها الفرد خلال هذه البيئات المختلفة وتؤدي به إلى التصرف بغباء بمرور الوقت.
1- الآباء يشعرون بالفخر والأطفال يتحولون إلى ‹‹أغبياء›› صغار (التقليد)
يشعر الأهل دومًا برغبة حقيقية في تحقيق مستقبل باهر لأطفالهم منذ اللحظات الأولى، ربما يطلق البعض ألقابًا على أطفالهم بمجرد خروج الجنين إلى نور الدنيا، فمنهم من يرى في طفله الطبيب الناجح أو المهندس الشهير، أو رجل الدين المفوه، أو الفنان المميز. يتحدثون عنه طوال الوقت ويخلقون في الطفل رغبة أن يصبح مثله، لنجد مؤخرًا بعض الأطفال الصغار يظهرون على شاشة القنوات التليفزيونية كصور منسوخة من مشاهير كبار، يفتخر الأهل بهم ويتم تقديمهم باعتبارهم أطفالًا أذكياء وأصحاب مواهب. والحقيقة أنه قد تم قتل الإبداع بداخلهم وتم تحويلهم إلى نسخة من شخص آخر، يتحول بمرور الوقت إلى أداة تعمل وفق ما يطُلب منها.
2- لا وقت للأسئلة، التلقين هو الطريق الأسرع ل صناعة الغباء
يخرج الطفل من أسرته مُستقبِلًا عالمًا جديدًا هو المدرسة، المدرسة التي تجيد اكتشاف مهارات الطفل وقدراته التي ربما عجز الأهل عن اكتشافها لعدم فهم أو تقصير. يحمل الطفل في داخله مئات الأسئلة الحائرة تبحث عن إجابات، عشرات الأفكار تبحث عن فرصة للتنفيذ. ولكنه لا يجد الوقت المناسب، فالعملية الدراسية معتمدة على مناهج لابد أن تنتهي قبل انتهاء العام، ثم يأتي الامتحان ليحدد مستوى التلقين والحفظ، اكتشاف المواهب والقدرات ليس مكانها المدرسة. فالمدرسة هنا خُلِقت كي تسير في خط مستقيم يخلق منه أداة جديدة تجيد العمل وفق إطار محدد وفقط. بمرور الوقت يفقد الطفل الشغف وتضيع الأسئلة والقدرة على فهم الواقع ومتغيراته.
3- الإعلام وصناعة الغباء
من المفترض أن يقوم الإعلام بدور نشر التوعية والمعرفة، فالمعلومة هي أول مدخلات العملية الفكرية والتي يتم بناءً عليها الوصول للنتائج والقرارات. فماذا يفعل الإعلام في أغلب الأوقات:-
التضليل الإعلامي:-
نشر المعلومات الخاطئة أو الناقصة يؤدي إلى تشويه في العملية الفكرية، فيصل الفرد إلى نتائج خاطئة إما أن يظل ضحية التصور الخاطئ طوال الوقت أو يصل لمعلومات متضاربة فيصل به إلى حالة من التشوش بين المعلومات. ومع وجود فشل في فهم الواقع وإدراكه يلجأ كثير من الناس إلى الإيمان بالأفكار الخاطئة بدلًا من البحث وإرهاق الذهن بين معلومات متضاربة.
كثير من الناس لا يبحثون عن الحقيقة قدر بحثهم عن «الكذبة» التي تسعدهم وتشعرهم بالرضا. *محمد الرطيان
القوالب الجاهزة:-
في أحيان كثيرة يقدم الإعلام قوالبَ جاهزةً عن رجل الدين أو البطل أو اللص أو فتاة الليل وغيرهم، يخلق النموذج ويقدمه للجمهور بشكل يحتمل التعميم فيتلقى الفرد القالب ويتصرف وفقه، دون محاولة تحليل أو تجزئة. فنجد على سبيل المثال انتشارًا لفكرة أن الملتحين إرهابيون وأن الاشتراكيين ملحدون وما إلى ذلك.
خلق تصورات عن السعادة والنجاح
وذلك من خلال الإنتاج الدرامي والسينمائي، يتم تقديم نماذج عن الأشخاص الناجحين في الحياة، تفاصيل حياتهم اليومية ومستواهم المادي، تصورات عن الحب أو العلاقة بين الزوجين. هذه التصورات تنتقل لعقل المتلقي ليتم التعامل معها باعتبارها النموذج الغائي دون اعتبار لمعطيات الواقع أو قدرات الفرد الشخصية.
نظرية المؤامرة .. لا وقت للتفكير
دائمًا هناك عدو خلف الستار يعمل على هزيمتك، أنت رائع بما فيه الكفاية لتهدد من حولك، ولا تقع في أي أخطاء. فقط احذر أعداءك. هذا التصور الجاهز الذي يتم تقديمه طوال الوقت في الإعلام ليؤكد على أن نقد الذات من غير الضروريات. فتجد الجمهور يتناقله بصورته العامة ويطبقه في حياته اليومية، وفي أدق تفاصيل يومهم.. هناك مدير متربص أو زميل يتلاعب بك. لا داعي لتحليل الموقف والبحث عن الأسباب الحقيقية. فقط تصرف وفق هذا التصور.
الأصدقاء لا يخطئون والأعداء لا يفعلون صوابًا أبدًا
يقدم الإعلام تصورات متطرفة طوال الوقت، فالبشر إما أصدقاء أو أعداء.. والشخصيات إما عظيمة أو فاشلة، وطنية أو عميلة.. لا وقت للتدقيق والتحليل الهادئ المتأني. فالحياة كذلك أبيض وأسود لا تُضِع وقتك في البحث عن ألوان وسيطة.
4- الإنترنت والانفصال عن الواقع
افتح موقع “جوجل” وابحث عن مصطلح “صناعة الغباء”.. عشرات الصفحات كلها تكرر نفس القصة المنسوبة إلى أينشتاين.. سوف أدع لك الفرصة لمعرفة ما هي القصة. فماذا يفعل الإنترنت بنا حتى يحولنا بمرور الوقت إلى أغبياء التصرف؟
مواقع التواصل الاجتماعي وخلق النسخ المكررة
تحدث حادثة ويتم تناقلها بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، تتشابه التعليقات وردود الأفعال فتشعر في النهاية أن هناك شخصًا واحدًا تم تكراره بأكثر من صورة. حاول أن تتذكر قليلًا؛ كم موقف مرَّ وشعرت أن رد الفعل تحول إلى “موضة” الكل يتبناها ويؤيدها دون تحقيق أو تأكد من صحة الحادثة أو الخبر؟ يمر قليل من الوقت لتختفي كل ردود الأفعال حتى يحين موعد ظهور حادث جديد. هذا ما يحدث طوال الوقت يتحول كل رواد المواقع إلى نسخ مكررة من نفس الشخص، تحولهم القضية أو الحادثة إلى وجوه مكررة كل منهم يرى في نفسه التفرد والتميز. التعليقات الساخرة، الدعوات، حملات موجهة ضد شخصية عامة أو مسئول كبير. بشكل أو بآخر نتحول بمرور الوقت إلى نفس الشخص في استقبال المعلومة والتعامل معها بل والشعور بها.
هدم ‹التابوهات› يتم لبناء أخرى
التمرد والتحرر هو أهم ما يميز مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فالقديم لم يعد ذا أهمية بالنسبة لهم، والجديد محل شكوك طوال الوقت، أمر جيد ومُنافٍ تمامًا لمفهوم الغباء ولكن في الواقع الصورة لا تنتهي إلى هذا الحد، فالهدم يأتي خطوة أولى لبناء مقدسات جديدة ومشاهير جدد وتمجيد من نوع آخر يتحرك فيه الرواد كالقطيع للدفاع عن أفكارهم ورموزهم بشكل لا إرادي.
العالم الافتراضي بديلًا عن العالم الواقعي
شغلت التكنولوجيا الحديثة والإنترنت حياة الناس بشكل متفاقم بمرور الوقت، فتحولت التكنولوجيا بدلًا من وسيلة لمساعدة الناس في تسهيل حياتهم إلى الحياة ذاتها. الكل عاكف على مشاركة حياته من خلالها وتكوين التصورات والقرارات وفق الحياة عبر العالم الافتراضي، الصداقات وعلاقات الحب والزواج كلها تتم من خلال هذا العالم الافتراضي. فيتحول العالم الواقعي إلى مرحلة مؤقتة لا يهتم الفرد باكتشافها أو تحليلها وتعميق نظرته لها. ونجد ردود الأفعال التي تتسم بالبلاهة واللامبالاة والانعزال هي السمة الأبرز.
5- القادة والزعماء لا يحبون الأذكياء
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه،لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحق منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط. عبد الرحمن الكواكبي
دومًا تكمن العقبة الكبرى في تاريخ الزعماء والقادة في السيطرة على الجمهور العريض بتنوع ثقافته وأطيافه، فالأصوات المعارضة تثير الرأي العام وتستدعي التفكير، والتفكير يستدعي النقد، والنقد يستدعي المحاسبة وهو الأمر الذي يراه القادة معرقلات على طريق تعميق حكمهم.
كانت الحرب العالمية هي البداية الحقيقية لدراسة سيكولوجية الجماهير واكتشاف سبل التأثير عليهم، فكانت إستراتيجيات الخوف هي أنجع الطرق في إسكات الأصوات المعارضة. فالوطن المهدد بالعدو والإرهاب هو وطن يحتاج إلى قلب رجل واحد لتخطي الأزمة. وطن لا يريد الالتفات لصغائر الأمور، فكل شيء عدا مجابهة “العدو” هو شيء غير مقبول.
بمرور الوقت تتحول الشعوب إلى أصوات مرتعشة تنتظر تحديد أولوياتها وفقًا لرؤية الدولة وتفتقد القدرة على البحث عن أسباب الفشل والهزيمة. فالبحث عن الأمان مقدم على كل شيء.
6- نمط الحياة السريع يحرمنا التأمل
يوميًا تزداد الحياة سرعة وتصبح القدرة على التأني والانتظار أمرًا عصيًا، أو بمثابة الرجوع للخلف. أعباء الحياة اليومية ومتطلبات العمل والانشغال بالبحث عن حلول لكل العوارض اليومية تفقد الإنسان لحظات التأمل والتفكر في حياته بشكل عميق، مستبدلًا ذلك بالحلول السريعة الجاهزة والتصورات المنتشرة بغض النظر عن قيمة المصلحة المضافة. فنجد بعض الدراسات التي تنظر إلى الوجبات السريعة باعتبارها أحد مسببات الغباء ليس لما تحتويه من عناصر غذائية ضارة ولكن لما تحتويه من قيمة الحلول الجاهزة البعيدة عن التكفير والإبداع. فيتحول الإنسان بمرور الوقت إلى مستهلكٍ عاجزٍ عن الإنتاج والإضافة.
أمثلة كثيرة يمكن بمجرد التدقيق فيها قليلًا أن نجدها تؤدي بنا إلى الانفصال عن الواقع والإضرار بمصالحنا الشخصية والعامة. وسوف يكون لديكم متسعٌ من الوقت للتفكر في حياتكم لتكتشفوا كيف نتعرض لمثل هذه المؤثرات يوميًا وكيف تعود علينا بالضرر.
مقال ل الشيماء عبد الخالق بتصرف