سياسة
الديمقراطية تعني حكم المشعوذين الذين يخدعون الجهلة ,ماذا عن الإبستوقراطية والتكنوقراطية ؟
الديمقراطية مُتعَبة، ومُحِبة للانتقام، وخادعة للذات، ومريضة بجنون العظمة، وغير متقنة، وغير مجدية في كثير من الأحيان. وفي أغلب الوقت، تعيش على أمجاد الماضي.
بهذه “الحقائق”، بدأ رئيس قسم العلوم السياسة والسياسات الدولية في جامعة كامبريدج البريطانية، دايفيد رونكيمان، مقالته المطولة على صحيفة The Guardian، وهنا نستعرض أبرز ما ورد فيها.
الديمقراطية تعني حكم المشعوذين الذين يخدعون الجهلة
لماذا لا نتخلص من تمثيلية الانتخابات والتصويت كلها؟ ونتوقف عن التظاهر باحترام وجهات نظر الناس العاديين، فالأمر لا يستحق، ما دام الناس مستمرين في فهم اتخاذ قرارات خاطئة. فلنحترم رأي الخبراء بدلاً من هذا! هذا هو الاختيار المتطرف بحق. فهل علينا تجربته؟
يطلَق على هذا التوجه السياسي اسم الإبستوقراطية، أي حكم من يملكون المعرفة. وهو مضاد مباشر للديمقراطية؛ لأنها تجادل بأنَّ حق المشاركة في صناعة القرار السياسي يعتمد على إذا ما كنت تعرف ما تفعله أو لا.
الفرضية الأساسية في الديمقراطية كانت دائماً هي أنَّه لا يهم مقدار ما تعرفه، لديك حق الإدلاء برأيك؛ لأنك مضطر إلى العيش مع نتائج ما تقوله. وجادل منتقدو الديمقراطية دائماً -بدءاً من أفلاطون- بأنَّها تعني حكم الجهلة، أو الأسوأ من هذا: أنها حكم المشعوذين الذين يقع الجهلاء في شَرَكهم.
وفي أعقاب التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قال البعض إنَّ الخروج حصل؛ لأن الأشرار كذبوا على الأغبياء. ديمقراطية متكاملة.
الدعوة لحكم الخبراء تطرح نفسها من جديد لهذه الأسباب
السؤال الذي تطرحه الإبستوقراطية هو: لماذا لا نصنف الأشخاص على أساس المعرفة؟ ما هو الأمر المميز في السماح للجميع بالمشاركة؟
كان هذا الجدل قائماً منذ أكثر من 2000 عام، وفي أغلب هذا الوقت، وكان الإجماع حتى نهاية القرن التاسع عشر على أنَّ الديمقراطية عادة فكرة سيئة: فوضْع السلطة في أيدي الناس الذين يجهلون ما يقومون به يُمثِّل مجازفة كبيرة. وبالطبع، كان هذا الإجماع فقط بين المثقفين.
على مدار القرن العشرين، تغير الإجماع في وسط المثقفين. ونصَّبت الديمقراطية نفسها باعتبارها الصورة الافتراضية للسياسة، وتتفوق مزاياها بشكل كبير على نقاط ضعفها. لكن الآن، تُحيي أحداث القرن الـ21 بعض الشكوك القديمة؛ إذ يبدو أنَّ الأنظمة الديمقراطية تقْدم بوضوح على بعض الأفعال الغبية في الوقت الحاضر. ربما لن يكون أحدٌ قادراً على التعايش مع أخطائها. في عهد ترمب، والتغير المناخي، والأسلحة النووية، تجدَّد الدعم للإبستوقراطية مرة أخرى.
حُكم “الذين يملكون المعرفة” يختلف عن حكم التكنوقراط
من ثم، فلماذا لا نعطي ثقلاً أكبر لآراء الأشخاص الأفضل من حيث الكفاءة لتقييم ما يجب القيام به؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، من الضروري التفرقة بين الإبستوقراطية، ومفهوم آخر يُخلَط عادة بينها وبينه، وهو التكنوقراطية. والاثنان يختلفان بعضهما عن بعض، فالإبستوقراطية تعني حكم أولئك الذين يتمتعون بمعرفة أفضل، أما التكنوقراطية فهي حكم الميكانيكيين والمهندسين، فالتكنوقراطي هو الشخص الذي يفهم كيف تعمل الآلات.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، جرى تعليق الديمقراطية في اليونان وإحلال مجلس من الخبراء محل الحكومة المنتخبة، وأُوكلت إليه مهام تثبيت أركان اقتصاد اليونان المتداعي. غير أنَّ هذه كانت تجربة تكنوقراطية وليست إبستوقراطية.
كان المهندسون في هذه الحالة اقتصاديين. فحتى أكثر رجال الاقتصاد مهارةً غالباً ما يعجزون عن تحديد أفضل ما يمكن القيام به. وما يعرفونه هو كيفية تشغيل منظومة معقدة كانوا جزءاً أساسياً من بنائها.
فالتكنوقراط يفهمون أفضلَ الخيارات الممكنة لتشغيل الماكينة؛ لكن إبقاء الماكينة تعمل طوال الوقت ربما يكون أصعب شيء ممكن. ولن يساعدنا التكنوقراط في هذه المسألة.
خطورة أن تسأل الناس عن رأيهم: إنهم لا يعرفون أنهم لا يعرفون
حاول جاسون برينان، الفيلسوف الذي يحمل جوهر روح القرن الـ21، إحياء المفهوم الإبستوقراطي في السياسة، بالبناء على أعمال مفكرين مثل ميل. وفي كتابه المنشور عام 2016 بعنوان Against Democracy، يصر برينان على أنَّ كثيراً من القضايا السياسية هي ببساطة، بالغة التعقيد ليفهمها غالية الناخبين؛ بل والأدهى من ذلك هو جهل الناخبين بمدى ضحالة ما يعرفون: فهم يفتقرون إلى القدرة على الحكم على مدى تعقُّد أمر؛ لأنَّهم شديدو التعلق بالحلول البسيطة التي تبدو صحيحة في نظرهم.
كتب برينان: “لنفرض أنَّ الولايات المتحدة عقدت استفتاء حول ما إذا كان ينبغي السماح بدخول مزيدٍ من المهاجرين إلى المدينة. ويستلزم الحكم عما إذا كانت هذه فكرة جيدة قدراً هائلاً من المعرفة الاجتماعية العلمية. فعلى المرء أن يعرف حينها إلى أي مدى يؤثر تدفق المهاجرين على معدلات الجريمة، والأجور المحلية، ورفاه المهاجرين والنمو الاقتصادي وعائدات الضرائب ونفقات الرفاه وما شابه. ومعظم الأميركيين يفتقرون إلى هذه المعرفة؛ في الواقع، الدلائل التي لدينا تشير إلى أنهم يقعون في الخطأ بصورة ممنهجة”.
بعبارة أخرى، لا يقتصر الأمر على أنَّهم لا يملكون المعرفة؛ أو حتى إنَّهم لا يدرون أنهم لا يملكون المعرفة؛ بل إنهم مخطئون على نحو يعكس يقيناً لا يتزعزع بأنَّهم على صواب.
يعتقد برينان أننا الآن لدينا أكثر من 100 عام من الأدلة التي تثبت خطأ ميل. فالتصويت ليس في صالحنا. فهو لا يحسِّن معرفة الأشخاص؛ بل إنَّه فقط يجعلهم أكثر غباءً؛ لأنَّه يُكرِّم تحيزاتهم وتغافلهم باسم الديمقراطية. وكتب برينان: “المشاركة السياسية ليست ذات قيمة بالنسبة لمعظم الناس؛ بل العكس، فهى لا تحقق لأغلبنا سوى منفعة قليلة، في حين تميل إلى تضليلنا وإفسادنا. وتحولنا إلى أعداء مدنيين لديهم أسباب لكي يكره بعضهم بعضاً”. المشكلة في الديمقراطية هي أنَّها لا توفر لنا الحفاز لتحسين معرفتنا. هي تخبرنا بأننا بخير كما نحن. لكن الحقيقة هي أننا لسنا بخير.
الاقتراع العام في الديمقراطية يمنح الجمهور المتهور الطائش حق القرار
قد يكون قرنٌ من الديمقراطية أو أكثر كشفَ النقابَ عن إخفاقاتها، لكنَّ هذه الحقبة علَّمتنا أيضاً أننا نستطيع التعايش مع تلك الإخفاقات. نحن معتادون على الفوضى ونهتمُّ أكثر بالفوائد. إننا نعرف الآن ما نعرفه، ليس فقط عن إخفاقات الديمقراطية، ولكن أيضاً عن تصالحنا مع حقيقة عدم مثاليتها.
اعتبرَ عالِم الاجتماع الألماني الكبير ماكس فيبر، الذي كَتَب في مطلع القرن الـ20 بصورة متقطعة، أنَّ الاقتراع العام فكرة خطيرة، وأوعزَ ذلك إلى الطريقة التي مكَّنت بها الجمهور المتهوِّر الطائش. لكنه استطرد مُقرّاً بأنَّه بمجرد أن تُمنَح هذه السُلطة للجماهير، لا ينبغي لأي سياسي عاقل أن يفكر في انتزاعها مرةً أخرى: ردُّ الفعل العنيف سيكون مروِّعاً للغاية. فالشيء الوحيد الأسوأ من السماح للجميع بالتصويت هو إخبار بعض الناس بأنهم لم يعودوا مؤهَّلين لهذا الأمر. فضلاً عمَّن سيُحدد هذه المعايير، من سيخبرنا بأننا فشلنا؟ كان جوت ستيوارت ميل مُحِقّاً: الديمقراطية يمكن أن تأتي بعد الإبستوقراطية، وليس العكس. هذه عمليةٌ تسير في اتجاهٍ واحدٍ.
سنعرف ما نريده “نحن الشعب”، فقط إذا فهمنا “نحن الشعب” ما نتحدث بشأنه
يقترح إجراء دراساتٍ استقصائيةٍ ترصدُ الميول السياسية للمواطنين وخصائصهم الديموغرافية، وتختبرُ معرفتَهم السياسية الموضوعية الأساسية. وبمجرد الحصول على هذه المعلومات، يمكننا محاكاة ما يمكن أن يحدث إذا بقيَت التركيبة السكانية للناخبين دون تغيير، وحين يتمكن جميعُ المواطنين من الحصول على درجاتٍ كاملةٍ في اختبارات المعرفة السياسية الموضوعية. يمكننا أن نحدد بدرجةٍ كبيرةٍ مِن الثقة ما نريده “نحن الشعب”، فقط إذا فهمنا “نحن الشعب” ما نتحدث بشأنه.
في عام 2017، أعلنت شركة كيميرا سيستمز للتكنولوجيا الرقمية في الولايات المتحدة أنَّها اقتربت من تطوير برنامجٍ الذكاء الاصطناعي “نايجل”، الذي من شأنه مساعدة الناخبين على معرفة كيفية التصويت في الانتخابات، استناداً إلى ما يعرفُه البرنامج مُسبَقاً بالفعل حول تفضيلاتهم الشخصية. وقال مُبتكره منير شيتا: “يحاول (نايجل) تحديد أهدافك، وما يبدو عليه الواقع بالنسبة إليك، ويستوعبُ باستمرارٍ مساراتِ المستقبل للوصول إلى أهدافك. إنَّه يحاول باستمرارٍ دفعَك في الاتجاه الصحيح”.
وهذه هي المشكلة الأساسية مع النظام الإبستوقراطي في القرن ال21
إننا لن نكون مَن يخبرون “نايجل” ماذا يفعل؛ بل سيقوم بذلك الفنيُّون الذين صمَّموا النظام. وسيكونون هم الخبراء الذين نعتمد عليهم لإنقاذنا مِن دوائر ردود الفعل المغلَقة. لهذا السبب، من الصعب معرفة كيف يمكن للإبستوقراطية في القرن الـ21 أن تتجنب الانحدار مرةً أخرى إلى التكنوقراطية. وعندما تسوء الأمور، سيعجز مَن يملكون المعرفة عن تصحيح المسار. فقط المهندسون الذين صمَّموا هذه الآلات سيملكون هذه القدرة، ما يعني أنَّ المهندسين هم من سيملكون السُلطة.
في الأسابيع الأخيرة، شهدنا لمحةً عما يمكن أن يكون عليه حُكم المهندسين. إنه ليس كابوساً استبدادياً من الظلم والعنف؛ بل صورة من الارتباك والتشويش. ولا تنكشف كلياً سلطة المهندسين؛ لأنَّ معظم الأشخاص لا يفهمون ما يفعلونه.
إن مشهد مارك زوكربيرغ، وهو يردُّ بتلقائية وأريحية واستخفاف على أسئلة نواب الكونغرس الأميركي التي تنُم عن جهل، هو لمحةٌ عن المستقبل التكنوقراطي حين تواجه الديمقراطية ما يتفوق عليها. لكن هذا ليس بديلاً جذرياً للسياسات الديمقراطية. ولكنه ببساطة تشويهٌ لها.